الكتابة هي الوسيلة الثابتة للتعبير عن الفكرة، وعندما فكر المصري القديم ان يسجل أحداث حياته كانت الطبيعة من حوله هي مصدر الإلهام، بما فيها من ظواهر طبيعية وكائنات حية، فهداه تفكيره إلى أن ينقل بعض ما في الطبيعة والبيئة المحيطة به، ليعبر بالصورة عن المعاني التي يريد التعبير عنها، وجاءت العلاقات ذات استخدام تصويري أي معبرة عن صورتها، فإذا رسم إنسانا فإنه يقصد التعبير عن الإنسان، وكذلك الحال بالنسبة لأعضاء جسم الإنسان أو الحيوان والطيور والزواحف والحشرات، إضافة إلى الأشجار والنباتات والجبال والبحار والأنهار.
وكل يوم يظهر دليل جديد يؤكد أن اللغة المصرية القديمة «الهيروغليفية» هي أصل اللغات الأوروبية الحديثة. فبالأمس القريب كشفت البعثة الأمريكية المصرية المشتركة عن نقش بإحدى صخور الجبل الشرقي بمدينة فرشوط بقنا يؤكد ذلك، مما يعد دافعا جديدا إلى معرفة بداية وكيفية نشأة الكتابة عند المصريين القدماء.
يقول د. عبد الحليم نور الدين أستاذ اللغة المصرية القديمة بكلية آثار القاهرة: إن الإنسان مر في عصور ما قبل التاريخ بمرحلتين حضاريتين أساسيتين، هما جمع القوت، وإنتاج القوت.
ومرحلة جمع القوت كان يسعى فيها الإنسان باحثا عن قوت يومه، حيث كان يخرج للصيد البري أو النهري أو البحري، بالإضافة إلى اقتلاع جذور النباتات البرية، وبعض أوراق الأشجار ليسد بها رمقه، وخلال هذه الفترة الزمنية الطويلة كان على الإنسان أن يعيش حياته متنقلا من مكان لآخر، يبحث عن مأوى هنا وهناك في وقت لم يكن له، من ملبس يستر به عورته ويقي به نفسه من حرارة الصيف وبرد الشتاء، وإذا كنا لا نستطيع تحديد بدء مرحلة جمع القوت فإننا نستطيع معرفة متى انتهت ليبدأ الإنسان مرحلة جديدة مهمة في حياته، تتمثل في إنتاج القوت. ولذا انتهت هذه المرحلة بتلك الطفرات الهائلة التي حققها الإنسان في حياته والمتمثلة في استئناس الحيوان وإيقاد النيران ومعرفة الزراعة، وهي طفرات حققت للإنسان الاستقرار، حيث ضمن باستئناس الحيوان مخزونا من الطعام، وتحول من أكل اللحم النيئ إلى الطهو بعد اكتشاف النار، حتى إنه غير أوانيه من طين إلى فخار، ويستمتع بالدفء في فصل الشتاء وبرد الليل.
وكان اكتشاف الزراعة بمثابة الاستقرار للإنسان الذي ارتبط بفيضان وبدورة زراعية وبذر البذور والحصاد وأقام لنفسه مسكنا بالقرب من مرعاه، وصنع لنفسه أيضا ملابس من الكتان، وكون أسرة وبدأ يتبادل المصالح مع التجمعات السكانية المجاورة، وكان هذا الاستقرار كافيا لينتقل الإنسان من مرحلة جمع القوت، وهي مرحلة الإشباع المادي إلى مرحلة الإشباع الفكري والذهني.
وفي ظل الاستقرار بدأ الإنسان يخطو خطواته الأولى بثقة ورسوخ نحو الفن، فبدأ يشكل من مواد لينة كالطين تماثيل لكائنات في الطبيعة تشغله في حياته اليومية في زراعته، وبدأ يسجل على الصخور بعض المناظر التي تمثل أنشطته المختلفة وتعبر عن محاولاته المستمرة لفهم العناصر التشريحية للإنسان والحيوان والطير والزواحف ولبعض الموجودات في الطبيعة مثل المياه والصحراء والجبال، وذلك في إطار ما نعرفه بالمخربشات، وهي المرحلة الوسيطة بين النقش والرسم، حاول الإنسان من خلالها أن يعبر في أشكال بلا نسب عما يجري من حوله في الكون.
اختراع الكتابة
ويشير د. جاب الله على جاب الله، الأمين السابق للمجلس الأعلى للآثار، إلى أنه عندما تعددت الأنشطة اليومية للمصري القديم وازدادت التجمعات السكانية كان على الإنسان أن يتبنى وسيلة ثابتة للتعبير عن أفكاره وتسجيل ما يجري حوله في حياته اليومية، وليس من شك في أن الإنسان ظل لفترة طويلة يتعامل بوسائل مؤقتة للتعبير عن الفكرة، ولعل من أبرزها استخدام الإشارات المتبادلة لتحقيق التفاهم بين الأفراد، والإشارة باستخدام عوامل مساعدة قد تخدم الفكرة في لحظتها، ثم تنتهي الفكرة بانتهاء استخدام الإشارة، ولا بد أن الإنسان قد أدرك في وقت ما أن الإشارة لا يمكن أن تفي بكل ما يريد أن يعبر عنه، فالكثير من المعاني الجمالية والقيم والمثل والمبادئ وكذلك المعاملات بين الناس كل هذه وغيرها كانت تحتاج إلى مفردات لا يمكن التعبير عنها بالإشارة، ثم إن الإنسان عندما خطا خطوات واسعة في مجال العقائد الدينية والأنشطة المدنية والعسكرية أدرك أنه لا بد من تسجيل أحداث بعينها، ولعل أبسطها أن إيمانه بحياة ما بعد الموت جعله يسعى للحفاظ على الجسد لكي تتعرف عليه الروح وتدب فيه، ومن بين وسائل الحفاظ على الجسد وضمان خلود الإنسان اسمه الشخصي الذي كان ولا بد من تسجيله على جدران مقبرته، وعلى تمثاله، وعلى أثاثه الجنائزي.
ومن هنا نجح المصري القديم بعد جهد كبير في تحقيق هذا الحدث الهائل الوسيلة الثابتة للتعبير عن الفكرة في الكتابة التي نقلته من مرحلة عصور ما قبل التاريخ إلى العصور التاريخية. أي أن الكتابة هي الحد الفاصل بين عصور ما قبل التاريخ والعصور التاريخية التي بدأتها مصر بالأسرة الأولى، على اعتبار أن الكتابة هي مادة تسجيل تاريخ وحضارة الإنسان القديم.
وجاء اختراع الكتابة تعبيرا عن الاستقرار الذي تحقق للإنسان المصري ماديا ومعنويا، وتعبيرا عن أن هذا الإنسان كان مهيأ قبل غيره للنهوض بعبء هذه الخطوة البارزة على طريق حضارته الرائدة.
أيضا هي تعبير عن أن البيئة التي عاش الإنسان المصري القديم في رحابها ساعدت على تحقيق الاستقرار له، ذلك الاستقرار الذي أفرز الكثير من الإبداعات، فالمناخ المناسب المستمر إلى حد كبير والأرض المستوية في معظم أرجاء البلاد والنيل شريان الحياة الذي ربط البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وحقق لها كل الخير والرخاء.
ويقول د. زاهي حواس الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار: إننا لا نعرف على وجه التحديد متى حقق الإنسان المصري القديم هذا الإنجاز، أي اختراع الكتابة، وإن كنا نعرف أن الأسرة الأولى بدأت في حوالي القرن 31 قبل الميلاد وحوالي5100 عام. وأن هذه الأسرة تمثل اللبنة الأولى في بناء الحضارة المصرية القديمة، وأنها شهدت محاولات جادة لكتابة الهيروغليفية، فلا بد أن محاولات الإنسان المصري للكتابة بدأت قبل الأسرة الأولى بحوالي قرنين من الزمان، حيث تشير إلى ذلك بعض الشواهد من الفترة المتأخرة من العصر الحجري الحديث وعصر ما قبل الأسرات، حيث حاول المصري مستلهما من الطبيعة أن يسجل بعض العلامات التصويرية والمفردات البسيطة.
وأشار المصريون في نصوصهم إلى لغتهم بمسميات كثيرة، منها: لسان مصر، فم مصر، كلام مصر، كلام أهل مصر.
وقد كتبت هذه اللغة بخطوط أربعة، هي: الهيروغليفية، الهيراطيقية، الديموطيقية، والقبطية.
وتتسم اللغة المصرية القديمة بشخصية مميزة تتمثل في الاحتفاظ بمبادئ وقواعد اختلفت بها عن غيرها من لغات العالم القديم، ورغم هذا التميز ولأن مصر كانت حضاريا وجغرافيا عضوا في جسد الشرق الأدنى القديم وذات صلات متفاوتة مع جزر البحر المتوسط وشمال إفريقيا، وبحكم الانفتاح الحضاري الناتج عن العلاقات تجارية أو عسكرية لمصر مع جيرانها، كان لا بد من أن تدخل اللغة المصرية القديمة في دائرة التأثير المتبادل. ومن ثَمَّ تضمنت قواعد ومفردات تشير إلى قيام علاقات قوية مع جيران مصر من أصحاب المجموعة السابقة في الشمال الإفريقي وأصحاب المجموعة الحامية في الغرب والجنوب الشرقي.
ويقول د. محمد الصغير رئيس قطاع الأعمال المصرية: إنه أثناء قيام البعثة الأمريكية المصرية المشتركة بأعمال المسح الأثرى وتسجيل النقوش الصخرية على امتداد الطريق الحربي القديم الذي يمتد من الصحراء الغربية ما بين الأقصر جنوبا وفرشوط بقنا شمالا، عثرت على نقش أثرى مدون بإحدى صخور وادي حول غرب قنا يرجع لعصر الدولة الوسطى 2100 قبل الميلاد، وتبين بعد دراسته أنه البداية الأولى لما يُعرف بالنقوش السيناوية، وهي كتابة مصرية تحورت من العلاقات الهيروغليفية لتأخذ أشكالا مختصرة استمد منها الفينيقيون أصول أبجديتهم، ونقل اليونان منهم حروف كتاباتهم عن اللغة الفينيقية، ومنهم أخذ الرومان أبجدية اللغة اللاتينية، وهي نفس الأبجديات المستخدمة حاليا في اللغات الأوروبية الحديثة، وهذا يعتبر دليلاً جديداً على أن اللغة المصرية القديمة أساس للغات الأوروبية الحديثة.